ليس الواقع ثابتًا كما نتصوره في حياتنا اليومية، بل هو في كثير من الأحيان مُعاد تشكيله عبر الأدوات الرمزية والمعرفية التي نستخدمها لفهمه وتمثيله. في صميم هذه الأدوات يقف مفهوم “الخيال الاجتماعي”، الذي لا يكتفي بتفسير العالم، بل يطمح إلى إعادة تخيله وإعادة صياغته. فالخيال الاجتماعي هو تلك القدرة الجمعية على التفكير في الممكنات، في البدائل، في ما يمكن أن يكون، وليس فقط في ما هو كائن.
ظهر هذا المفهوم بقوة في كتابات عالم الاجتماع الأمريكي تشارلز رايت ميلز، الذي اعتبره أداة لفهم العلاقة بين الفرد والتاريخ، بين التجربة الشخصية والبنية الاجتماعية. لكن الخيال الاجتماعي يتجاوز التحليل السوسيولوجي، ليتغلغل في الفلسفة، الأدب، الفن، وحتى في الحركات السياسية والثقافية.
الخيال ليس نقيض الواقع
غالبًا ما يُختزل الخيال في الثقافة الشعبية على أنه نقيض الواقع: هروب، وهم، خرافة، أو نوع من الترف العقلي. لكن الخيال الاجتماعي ليس ترفًا، بل هو نشاط مؤسس للواقع، لأنه يُعيد إنتاج معناه وتفسيره وحدوده. نحن نعيش داخل شبكات من الرموز، التمثيلات، السرديات، والقيم التي هي من صُنع الخيال الجمعي.
فالحدود بين الممكن والمستحيل لا تُرسم فقط من خلال القوانين أو التكنولوجيا، بل من خلال ما يُعتقد أنه قابل للتخيل. مجتمعات لا تتخيل المساواة، لن تسعى إليها. مجتمعات لا تتخيل حرية الفكر، لن تطورها. إذًا، التخيل ليس مجرد انعكاس للعالم، بل هو شرط لتغييره.
الخيال كقوة مُمأسسة
يبدو من السطح أن الخيال عملية ذات طابع شخصي، مرتبطة بالفرد وقدرته على الإبداع. لكن في الحقيقة، ما نتخيله وما لا نتخيله غالبًا ما يُشكل داخل أطر جماعية: ثقافة، تعليم، لغة، إعلام. المؤسسات الكبرى – من المدرسة إلى السينما – تلعب دورًا في تحديد ما هو ممكن تخيله.
هنا يتقاطع الخيال الاجتماعي مع مفاهيم مثل الهيمنة الثقافية عند غرامشي، أو العنف الرمزي عند بورديو. فحين نعيش في نظام يحد من قدرتنا على تخيل نظام بديل، نكون قد دخلنا في أعمق درجات الاستلاب: استلاب الخيال. من هنا، تصبح إعادة تسييس الخيال ضرورة ملحة لكل من يسعى لفهم العالم أو تغييره.
الخيال والهوية: من الفرد إلى الجماعة
يلعب الخيال دورًا محوريًا في تشكيل الهوية، سواء كانت فردية أو جماعية. نحن لا نعرف أنفسنا فقط من خلال ما نعيشه، بل من خلال القصص التي نُخبر بها عن أنفسنا. الهوية ليست سردًا لحقيقة ماضية، بل مشروع مستقبلي تُعيد الجماعة تشكيله باستمرار من خلال الخيال الجمعي.
خذ على سبيل المثال مفاهيم مثل “الوطن”، “الأمة”، أو “النهضة” – كلها ليست وقائع مادية، بل بنى تخيلية تنشأ من سرديات، شعارات، رموز، وأحلام. حتى الهوية الفردية في عصر ما بعد الحداثة باتت تُدار كنوع من “السرد المتخيل للذات”، حيث يصوغ الفرد هويته كمشروع قابل للتعديل والتحديث.
الخيال والممكن السياسي
من أبرز تجليات الخيال الاجتماعي قدرته على توسيع حدود الممكن السياسي. كل تحول تاريخي كبير بدأ أولًا كمشروع تخيلي: حقوق الإنسان، نهاية العبودية، تحرير المرأة، الديمقراطية، الاقتصاد التشاركي… كلها كانت في بداياتها “أفكارًا مجنونة” ثم أصبحت واقعًا.
الفكرة، حين تُروى وتُتداول وتُتخيل جماعيًا، تصبح طاقة اجتماعية. وهنا تلعب اللغة دورًا محوريًا، فكلما صارت الفكرة قابلة للقول، صار تحقيقها أكثر قربًا. هذا ما يجعل من الخطاب أداة فعل، وليس مجرد وسيلة وصف.
الفن والأدب كتمارين على الخيال الاجتماعي
لا يمكن فهم الخيال الاجتماعي دون المرور على دور الأدب والفن. فالرواية – بوصفها مرآة المجتمع أو حلمه – تعيد تشكيل العالم عبر الاحتمال والافتراض. الرواية ليست فقط قصة، بل بناء متخيل لعالم آخر، عالم يُشبهنا أو يُعارضنا، لكنه يُجبرنا على إعادة التفكير في عالمنا.
كذلك السينما، الرسم، المسرح، وحتى الأغنية الشعبية، كلها أدوات لتخيل الآخر، المستقبل، النهايات البديلة. في هذا السياق، يصبح الفنان كائنًا سياسيًا بالضرورة، لا لأنه يرفع شعارًا، بل لأنه يوسّع حدود الخيال الممكن.
التكنولوجيا والخيال: من السيطرة إلى التحرر؟
في العصر الرقمي، بات الخيال الاجتماعي أكثر تعقيدًا. فمن جهة، تسمح وسائل التواصل ومواقع التفاعل ببناء شبكات من التخيل المشترك: سرديات جديدة، جماعات افتراضية، حركات عابرة للحدود. ومن جهة أخرى، تقوم الخوارزميات والذكاء الاصطناعي بضبط هذا الخيال داخل أطر استهلاكية وتجارية مغلقة.
كيف نوازن إذًا بين القدرة التحريرية للخيال الرقمي، ومخاطره التطبيعية؟ هذا سؤال مركزي في زمن ما بعد الحقيقة، حيث تُصاغ الوقائع كما تُصاغ القصص، ويغدو الواقع نفسه جزءًا من البنية المتخيلة.
نحو خيال اجتماعي نقدي
في ضوء كل ما سبق، لا يكفي أن نمتلك خيالًا اجتماعيًا، بل يجب أن يكون نقديًا. خيال يُعيد التفكير في الموروث والمفترض، في المُقدّس والمألوف، لا من باب الهدم فقط، بل من باب إعادة البناء. المطلوب هو قدرة مستمرة على إعادة تخيل العالم بطريقة أكثر عدالة، أكثر حرية، وأكثر إنسانية.
وهذا يعني تدريبًا دائمًا على طرح السؤال الجوهري: “ماذا لو…؟”. ماذا لو لم تكن الأمور كما هي؟ ماذا لو تخيلنا عالمًا آخر؟ هذا السؤال ليس عبثيًا، بل هو أساس كل مشروع تحرري – علمي، أدبي، فلسفي، أو اجتماعي.
خاتمة
الخيال الاجتماعي ليس ترفًا فلسفيًا ولا أداة للهرب من الواقع، بل هو شرط أساسي لفهمه وتغييره. إنه القدرة الجمعية على تخيل البديل، على كسر البديهي، وعلى بناء واقع أوسع من ضرورات اللحظة. في عالم يتغير بسرعة ويتجه نحو المزيد من التعقيد، يصبح الخيال الاجتماعي أداة مقاومة، وتجديد، وربما خلاص.
ففي النهاية، العالم لم يتغير يومًا إلا حين تخيله أحدهم بطريقة مختلفة.