You are currently viewing حين يكتب العلماء: اللغة الأدبية في الكتابة العلمية

حين يكتب العلماء: اللغة الأدبية في الكتابة العلمية

لطالما صُوِّر العلم والأدب كعالمين متباعدين؛ الأول قائم على التجريب والدقة، والثاني معتمد على التخييل والأسلوب. فالعلم، كما يُقال، يخاطب العقل، بينما الأدب يخاطب القلب. غير أن هذا التصور يغفل منطقة التماس بينهما، حيث تنشأ لغة ثالثة، هجينة، تتوسّل جماليات الأدب لخدمة حقائق العلم، وتُغني الخطاب العلمي بجاذبية لغوية تسهل وصوله وتمنحه بعدًا إنسانيًا أعمق.

من هنا تنشأ أهمية سؤال: ماذا يحدث حين يكتب العلماء بلغة أدبية؟ وهل يمكن للغة العلمية أن تتخلّى عن جفافها التقليدي لصالح انسيابية تعبيرية دون أن تُضحّي بدقتها؟


بين الصرامة البلاغية والصرامة المنهجية

اللغة العلمية – كما تُدرّس وتُمارَس – هي لغة اختزال وتحديد، لغة تتوسل الدقة عبر التخلي عن الانفعال. فالجملة العلمية يجب أن تُفهم كما هي، دون تفسيرات متعددة. أما اللغة الأدبية، فهي تقوم على الإيحاء والتعدد، وتستفيد من المجاز والغموض في إثراء المعنى.

لكن بعض العلماء – من نيوتن إلى داروين، ومن فريمان دايسون إلى كارلو روفيلي – كسروا هذا الحاجز، وكتبوا بلغة لا تُفرط في الغموض، لكنها لا تكتفي بالوضوح. إنها لغة “عاقلة وعاطفية” في آن، حيث يُمكن أن تتجاور المعادلة الفيزيائية مع استعارة شعرية، أو أن تُستعمل الصورة البلاغية لتفسير حركة الجزيئات أو أصل الكون.


لماذا يلجأ العلماء إلى اللغة الأدبية؟

  1. للتقريب والتفسير:
    اللغة العلمية – بخاصة في الفيزياء والرياضيات – قد تكون عصية على القارئ غير المتخصص. هنا تبرز الحاجة إلى “ترجمة جمالية”، أي شرح المفاهيم المعقدة من خلال تشبيهات وصور مألوفة. مثلًا، يُشبّه البعض نسيج الزمكان بـ”النسيج المطاطي”، أو الجينوم البشري بـ”كتاب الحياة”، في استعارات تخدم الوضوح لا الإبهام.

  2. لإثارة الفضول والدهشة:
    كثير من العلماء يكتبون كي يُلهموا، لا فقط ليُقنعوا. فالدهشة – كما يرى آينشتاين – هي بداية كل تفكير علمي. واللغة الأدبية، بما تملكه من طاقة تصويرية، قادرة على بعث هذه الدهشة في القارئ.

  3. لإعادة الإنسانية إلى المعادلة:
    العلم ليس مجرد وقائع وأرقام، بل هو جزء من المشروع الإنساني في فهم العالم. ولذلك، يحتاج الخطاب العلمي أحيانًا إلى لغة تُعيد للعلم بُعده الأخلاقي، الوجداني، وحتى الفلسفي.


أمثلة بارزة على دمج الأدب في الخطاب العلمي

  • كارل ساغان (عالم فلك):
    في كتابه “كون” (Cosmos)، يكتب:

    “نحن وسيلة الكون لمعرفة نفسه.”
    إنها جملة شِعرية، لكنها أيضًا تصريح كوني بامتياز، تصف موقع الإنسان في الكون بلغة أدبية مذهلة.

  • ريتشارد فاينمان (فيزيائي):
    عرف بأسلوبه الحي والمباشر. في محاضراته وكتاباته، لا يتردد في استخدام الدعابة والتشبيهات لتقريب أكثر الأفكار تعقيدًا. لم يكن فقط يشرح، بل كان يحكي قصصًا عن الطبيعة.

  • أوليفر ساكس (طبيب أعصاب):
    مزج بين العلم والسرد القصصي. في كتبه مثل “رجل حسب زوجته قبعة”, حول قصص مرضى بأعراض عصبية غريبة، يستعمل أسلوبًا سرديًا رقيقًا وإنسانيًا، يجمع بين التقرير العلمي والتأمل الفلسفي.


تحديات ومزالق

رغم جاذبية هذا الدمج، إلا أن استعمال اللغة الأدبية في الكتابة العلمية ليس بلا ثمن أو محاذير:

  • خطر التبسيط المُخل:
    أحيانًا تؤدي الاستعارات إلى تشويه المفاهيم، أو إلى إسقاطات غير دقيقة. مثلاً، تشبيه الذرات بـ”كواكب صغيرة” قد يضلل الفهم الفيزيائي الحقيقي.

  • إثارة الشك في العلمية:
    بعض العلماء يرون أن استعمال لغة مشبعة بالصور قد يُضعف الثقة في “حيادية” العلم أو يفتح المجال للتأويل.

  • الإغراء بالمجاز على حساب المنهج:
    حين تنجح البلاغة، قد تطغى على الموضوع ذاته، وتتحول الكتابة العلمية إلى خطاب استعراضي بدلًا من أن تبقى وسيلة للفهم.


الكتابة العلمية كـ فن

في العصر الرقمي، حيث تتنافس المعرفة مع المحتوى السريع والمثير، أصبحت الحاجة إلى خطاب علمي جذّاب أكبر من أي وقت مضى. ولم يعد ممكنًا أن تبقى الكتابة العلمية أسيرة المصطلحات المغلقة والجمَل المتخشبة.

إن كثيرًا من القرّاء اليوم لا يسعون إلى المعلومات وحدها، بل إلى تجربة قراءة، تجمع بين الفهم والمتعة. وهنا تبرز اللغة الأدبية كأداة قادرة على منح الكتابة العلمية عمقًا ودفئًا.

فالكاتب العلمي – كالعالِم ذاته – لا يكتفي بالإجابة عن الأسئلة، بل يسعى إلى خلق أسئلة جديدة، وإلى زعزعة المُسلَّمات، وتحفيز الخيال. وكل ذلك لا يتم بلغة جامدة، بل بلغة نابضة بالحياة.


خاتمة: عالِم يسرد، لا يُبلّغ فقط

حين يكتب العلماء بلغة أدبية، فهم لا يتخلّون عن دقة العلم، بل يوسّعون أفقه التعبيري، ويعيدون وصل ما انقطع بين العقل والخيال. في زمن تتعاظم فيه الحاجة إلى الفهم العميق، وإلى استعادة الثقة بالمعرفة، يصبح المزج بين الأدب والعلم ضرورة لا ترفًا.

اللغة ليست مجرّد وسيلة لنقل المعلومة، بل هي أيضًا وسيلة لإعادة تشكيل علاقتنا بالكون. وهكذا، حين يكتب العلماء بلغة تشبه الشعر أو السرد، فهم لا يُزيّنون العلم، بل يُعيدون إليه بُعده الإنساني، ويُقرّبونه من قلوبنا، لا فقط من عقولنا.